السبت 6 ديسمبر 2025 10:52 مـ 15 جمادى آخر 1447 هـ
اقرأ الخبر
رئيس التحرير هبة عبد الحفيظ
×

تحت مظلة واشنطن: الاتفاق الهش بين الكونغو ورواندا وأبعاده الخفية

السبت 6 ديسمبر 2025 05:04 مـ 15 جمادى آخر 1447 هـ
ترامب يشارك في حفل توقيع «اتفاق السلام» مع رئيسي رواندا والكونغو الديمقراطية في واشنطن (أ.ف.ب) - اقرأ الخبر
ترامب يشارك في حفل توقيع «اتفاق السلام» مع رئيسي رواندا والكونغو الديمقراطية في واشنطن (أ.ف.ب) - اقرأ الخبر

استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الخميس، حفل توقيع “تاريخي” بين رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي ونظيره الرواندي بول كاغامي في واشنطن. جرى التوقيع على اتفاق سلام يُفترض أن ينهي أحد أطول الصراعات في إفريقيا، والذي دام لعقود في شرق الكونغو الغنية بالموارد. صرح ترامب بعبارات تفاؤلية، واصفاً الاتفاق بأنه "معجزة عظيمة"، في إطار سردية إنجازات السلام التي يروج لها منذ عودته إلى البيت الأبيض.

لكن الأجواء داخل قاعة التوقيع كشفت عن فجوة كبيرة في الروايات. بينما تبنى ترامب خطاباً انتصاريًا مباشراً يركز على المكاسب الأمريكية، التزم الرئيسان الأفريقيان بنبرة متحفظة وحذرة. اعترف كاغامي بأن "ستكون هناك عثرات أمامنا"، بينما وصف تشيسكيدي الاتفاق بأنه "بداية مسار جديد يتطلب الكثير من العمل". هذا التناقض في النبرة يشير من البداية إلى هشاشة الأساس الذي بُني عليه الاتفاق واختلاف أولويات الأطراف.

واقع الأرض: عنف متواصل

يأتي توقيع الاتفاق في تناقض صارخ مع الواقع الميداني الملتهب في مقاطعات شرق الكونغو. ففي عشية التوقيع، شهدت مقاطعة جنوب كيفو معارك عنيفة جديدة بين جماعة "إم 23" المسلحة، التي تؤكد تقارير الأمم المتحدة على دعم رواندا لها، وبين القوات الكونغولية المدعومة بميليشيات محلية. هذا العنف ليس حدثاً معزولاً، بل هو استمرار لتقدم ميداني ملحوظ حققته "إم 23" منذ أسابيع.

تستمر الحركة في تحقيق انتصارات وتوسيع نطاق سيطرتها، مما أدى إلى قصف واسع ونزوح جماعي للسكان في مناطق مثل كازيبا. يتبادل الجانبان الكونغولي والرواندي الاتهامات بانتهاك وقف إطلاق النار، مما يجعل الورقة الموقعة في واشنطن تبدو كوثيقة منفصلة عن ديناميكيات القتال على الأرض. هذا الاستمرار في العنف يطرح علامات استفهام جوهرية حول الجدية الفعلية للالتزام بالسلام من قبل الأطراف المتحاربة الفعلية.

الدافع الأمريكي: اقتصاد أولاً

كشف خطاب ترامب عن الدافع الجيوسياسي والاقتصادي الأمريكي وراء الوساطة. بكل وضوح، ربط الرئيس الأمريكي بين اتفاق السلام والمكاسب الاقتصادية للولايات المتحدة، قائلاً: "سنستخرج بعض المعادن الأرضية النادرة... وسيجني الجميع الكثير من المال". يعد هذا التصريح بمثابة اعتراف صريح بأن السلام ليس غاية في حد ذاته، بل هو وسيلة لتمهيد الطريق أمام المصالح التجارية والاستراتيجية الأمريكية.

تعتبر منطقة شرق الكونغو من أكثر المناطق ثراءً بالمعادن الحيوية عالمياً، مثل الكوبالت والليثيوم والكولتان، وهي مكونات أساسية في صناعة التكنولوجيا الحديثة والبطاريات والسيارات الكهربائية. بهذا، يصبح الاتفاق أداة لضمان وصول الشركات الأمريكية إلى هذه الثروات، في إطار المنافسة العالمية، وخاصة مع الصين، على الموارد الإفريقية. تحول الصراع بذلك من قضية إنسانية إلى ورقة مساومة في لعبة أكبر.

بنود هشة وآليات غائبة

ركزت بنود الاتفاق المعلنة على نزع سلاح المليشيات وإدماجها في الجيش الوطني، لكنه افتقر بشكل لافت إلى آليات تنفيذ واضحة وقابلة للمراقبة. لا توجد آلية دولية قوية ومحايدة للإشراف على عملية نزع السلاح أو لضمان التزام جميع الفصائل، خاصة تلك التي لم توقع على الاتفاق. هذا الغياب يجعل العملية عرضة للتلاعب والتأجيل والفشل، كما حدث مع جميع الاتفاقات السابقة منذ عودة "إم 23" للقتال في 2021.

الأخطر من ذلك هو إغفال الاتفاق بشكل شبه كامل لملف المحاسبة والعدالة الانتقالية. تتهم جماعات مثل "إم 23" بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل العشوائي والاختطاف والعنف الجنسي. عدم معالجة هذا الملف يعني إدامة ثقافة الإفلات من العقاب، وإرسال رسالة خاطئة بأن العنف لا يترتب عليه عواقب، مما يقوض أي جهد حقيقي للمصالحة الوطنية وبناء سلام مستدام.

إغفال الضحايا وإعادة الإعمار

يتجاهل الاتفاق بشكل صارخ المعاناة الإنسانية الهائلة التي خلفها الصراع. لا توجد فيه بنود واضحة أو مخصصات مالية لبرامج إعادة إعمار المجتمعات المدمرة، أو دعم النازحين الذين يعدون بالملايين، أو تقديم تعويضات للضحايا. يفتقر أيضاً إلى ضمانات أمنية ملموسة للسكان العائدين، مما يخلق بيئة من الخوف وعدم الثقة تجعل أي عودة دائمة أمراً مستحيلاً.

هذا الإغفال ليس تقصيراً فنياً، بل هو انعكاس لأولويات المفاوضين. عندما يكون الهدف الأساسي هو فتح الطريق للموارد، تتراجع قضايا العدالة والكرامة الإنسانية والإعمار إلى المرتبة الثانية. يبقى السكان المحليون، وهم الضحايا الرئيسيون، خارج حسابات الصفقة، مما يجعل "السلام" المُعلن بلا معنى حقيقي في حياتهم اليومية.

رواندا: حليف لا يُوثَق به

تشكل رواندا المعضلة المركزية في أي اتفاق. فمن ناحية، هي الطرف الخارجي المتهم بدعم التمرد وتأجيج العنف لأسباب تتعلق بالأمن والموارد والنفوذ. ومن ناحية أخرى، هي حليف استراتيجي مهم للغاية للولايات المتحدة في المنطقة، يتمتع بنفوذ قوي في واشنطن. هذا الموقع المتناقض يمنح كيغالي قدرة على المناورة والضغط دون أن تتحمل تبعات فعلية.

تبرر رواندا تدخلها بالحاجة إلى تدابير دفاعية ضد جماعات مثل "قوات تحرير رواندا الديمقراطية" المناوئة، والتي تتخذ من شرق الكونغو ملاذاً. بموازاة ذلك، تواصل دعم "إم 23" كأداة لتحقيق أهدافها. في ظل هذه المعادلة، يبقى السؤال: هل يمكن لواشنطن أن تضغط بشكل حاسم على حليفها الرواندي لإنهاء دعمه للمتمردين، أم أن المصالح الاستراتيجية الأمريكية ستتغلب على ضرورة تحقيق سلام عادل؟

ردود الفعل: شكوك كونغولية عميقة

أثار الاتفاق جدلاً واسعاً وغضباً بين الكونغوليين، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي. ينبع الشك من خبرة تاريخية مريرة مع اتفاقات سلام سابقة انتهكت جميعها، ومن التركيز الأمريكي الصارخ على الجانب الاقتصادي. يرى الكثيرون أن الاتفاق هو مجرد إعادة توزيع للأوراق لصالح القوى الخارجية، بينما يبقى السكان المحليون رهينة نفس الحلقة المفرغة من العنف والفقر.

يتساءل الكونغوليون عن مصير بلادهم في العقد المقبل: هل سيكون هذا الاتفاق بداية لاستقرار حقيقي، أم مجرد هدنة مؤقتة تسمح بنهب الموارد قبل أن تعود الحرب من جديد؟ يظل الخوف من احتمال فصل إقليم شرق الكونغو الغني بالموارد قائماً، في سيناريو كابوسي يذكر بصراعات أخرى مدعومة خارجياً في القارة.

سلام هش لمصالح صلبة

في التحليل النهائي، يبدو اتفاق واشنطن هشاً ومعرضاً للانهيار بسبب عدة عوامل مترابطة: استمرار القتال على الأرض، غياب آليات تنفيذ ومراقبة قوية، إغفال قضايا العدالة والتعويض، والتركيز الأمريكي المفرط على المكاسب الاقتصادية على حساب الاستقرار الحقيقي. تحوّل السلام إلى سلعة في صفقة أكبر، حيث يتم تبادل الوعود الهشة بالوصول إلى المعادن النادرة.

الدرس المستفاد من تاريخ الصراع في الكونغو هو أن السلام لا يُفرض من فندق فاخر في واشنطن. السلام الحقيقي يحتاج إلى عملية سياسية شاملة تشارك فيها جميع الأطراف المحلية، وتعالج جذور الصراع من فساد وضعف مؤسسات الدولة والظلم في توزيع الثروة، وتوفر العدالة للضحايا. بدون ذلك، سيبقى أي اتفاق مجرد حبر على ورق، وسيستمر شعب الكونغو في دفع ثمن حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، بينما تتدفق ثرواته إلى الخارج تحت شعارات السلام والشراكة.